الأحد، 12 مايو 2019

استواء

تستوي حياتك عند خط الاستواء. ليلك ونهارك مستويان. ساعات صومك نفسها كل عام. وهي منتصفة اليوم ومنصفة. مواقيت صلاتك نفسها لا تتغير إلا شيئًا يسيرًا. الطقس معتدل غير أنك اعتدت تكييف الهواء، لا هو بالحمى ولا هو بالبرد، عدا أن الرطوبة عالية، وإن تلكّأ المطر تأججت الشمس. لا فصول تتبدل ولا مواسم على مدار العام. أمزجة الناس معتدلة تشابه جوّها في ذلك، فلا ترى حدةً ولا عصبية، ولا صوت عال يفسد قضايا الود. أبواق السيارات فقدت استعمالها. حركة الناس بطيئة وكأن لا هموم لهم ولا شؤون، ولا أموال يقترفونها ولا تجارة يخشون كسادها. قد تمَيّزُ من الغيظ وأنت تجادلهم في همومك وهم لا يبالون، يردون عليك بالنبرة المستوية نفسها، ويكررون الكلام نفسه في الرفض مثلاً وأنهم لا يخرقون القانون. أحيانًا ستموت من فرط الاهتمام، وسيقتلك برد أعصابهم، ستقول إنهم بلا مشاعر، فلا انفعالات يبدونها إلا ما ندر. حتى في الفرح يفرحون بِيُسر. يمكن القول إنها حياة رتيبة، وأحيانًا مملّة، ولكنك في النهاية ستعتادها. ستصير إلى ما صاروا إليه. ستستوي وتعتدل. ستترك انفعالاتك جانبًا. ستسمح أكثر مما تمنع. ستنسى استخدام مزمّر السيارة. ستتخفف من غضبك، ولا أدري إن كانت فرحتك ستتغير. ستعرف أن ليست كل الأشياء تهم، ولا كل الأشياء تسوى، ولا تؤخذ الدنيا غلابًا.

الثلاثاء، 11 سبتمبر 2018

أبواب

لم يعد باب الغرفة المجاورة الوحيد الذي يُفتح ويُغلق، بعد أن عادت الفتيات من الإجازة الصيفية وامتلأ المبنى عن آخره. كنت أميّز باب رفيقتي حين تأتي وحين تذهب، فأعمل صورة في ذهني لجدولها اليومي، وعليه أرسم جدولي من مرافقتها أو البقاء بمفردي، أما الآن فلا. أبواب كثيرة دخلت بيننا مما صعّب عليّ المهمة. أبواب تفتح وأبواب تغلق، بعضها يُترك دون إقفال، وبعضها يقفل مرة أو مرتين. في الصباح يبدأ اليوم مع شروع الأبواب بالعمل، فتحٌ وإغلاق، حركة دؤوبة مستمرة، تبدأ منذ السادسة ولا تهدأ إلا بعد منتصف الليل وأكثر.
في السادسة وما قبلها تُفتح الأبواب الهادئة، لصاحباتها اللاتي يعين معاني الفجر والصلاة والتأمل والرياضة، تليها أبواب الثامنة لفتيات المحاضرات المبكرة، واللاتي يهممن باللّحاق بالباص ولا يفوّتن الإفطار. أبواب التاسعة والعاشرة أبواب مزعجة متتالية يصفق بعضها بعضًا، تصاحبها أصوات صاخبة ونداءات متكررة لأسماء مصغّرة، يستحثن بعضهن للنزول وإلا تأخرن وفوّتن الباص. في فترة الظهيرة يهدأ المكان، وتعود الطيور تغرّد وتصفر وتملأ المكان بحياتها، بعد أن عمّ الهدوء وعاد الأمان من جديد، تستطيع حينها أن تنزوي هادئًا في غرفتك تقرأ وتكتب، وتعد كوبًا من القهوة، أو تنزل لتغسل ملابسك. في المساء؛ تبدأ الأبواب بالعمل مرة أخرى، وتتناوب فتحًا وإغلاقًا، في منافسة محمومة أيها أعلى صوتًا، باب يضيق بهمّ صاحبته، وباب لا تسعه فرحة. باب يُفتح لاستقبال عزيز، وباب يوصد في وجه متطفل. باب يؤوي إليه من يشاء، ويُرجي من يشاء.

الثلاثاء، 3 يوليو 2018

اِلتقاء

أنت تخرج للجري مع شريكك في السكن الذي عرفته حديثًا ولا أشياء كثيرة مشتركة بينكما، أو توجد أشياء مشتركة لم تتشاركاها بعد، تبدآن بالمشي وأحاديث عادية تدور بينكما قد تضحكان منها وقد لا تضحكان، حواركما لا يشمل أي حديث عن فلان وفلان، هناك أمور العمل، وأمور الدراسة، وأمور الحياة اليومية: تعليق لأستاذك في الفصل، إجراء روتيني نسيته، أحداث عادية جرت لأسرة أحدكما هذا المساء، مشهد من مسلسل، وأحاديث شتى متفرقة لا تعنى بأحد، ولا تؤذي أحدًا.
تبدآن بالركض فيسود الصمت ويكثر الهواء الذي تدفعانه من صدوركما إلى خارجها، لا تشعران بالضيق إزاء صوت التنفس السريع هذا، تستمران بالركض وتتوقفان معًا للراحة والمشي، بعد أن حفظتما أماكن التوقف ونقاط البدء، لقد فهمتما كيف تجري الأمور، ليست هناك دواعٍ للنقاش أو الجدال، تتفقان من نظرة ومن حركة، لا شيء يعكر صفو يومكما الهادئ، ولا صور درامية يمكن أن يحدثها أيٌّ منكما، إن أردتما خرجتما للغداء سويًا، أو بقي كلٌ في غرفته، لا خلاف على أي شيء، لا حاجة لإبراز النفس وتبريرها للآخر، لا حاجة لسرد قصة حياتكما منذ البداية، كلاكما لا يبالي، تؤمنان بأن الحياة أجمل حين تتشاركان اللحظات الصافية المنشرحة، كأن تلحظا منظر الغروب من الشرفة، أو تُبديا تعليقًا على غزارة المطر، أو تستمعا إلى أغنية تعجبكما سويًا، فتفهمان أن روحيكما هناك معًا، كانت من قبل، وستبقى من بعد.


إلى سناء ... الصديقة السهلة

الأربعاء، 2 مايو 2018

دوائر

أفكر دائمًا بالصديقات، الصديقات اللاتي جمعتني بهن ظروف معينة ولن تتهيأ مرة أخرى، صديقات البلاد البعيدة، اللاتي جئن من مشرق أرض ومغرب، محمّلات بأحلام وآمال وجنون كثير، فبعثن فيني حلمًا أو أملاً أو جنونًا مخبوءًا، صغيرات وكبيرات، بسيطات ومعقّدات، مسالمات ومحارِبات، ودّعتُ بعضهن وسأودّع بعضًا، وسيودعنني يومًا. ترهقني الفكرة كثيرًا، أن تصير كل منا في بلاد، قد يبعثن لي صور مدُنِهنّ، قد نتواصل لزمن، سنبقى نعد بعضنا بالوصل طالما مددتنا الحياة بطرق الوصل، وكم أخاف أن تتغيّر الأحلام وتبهت الذكريات؛ فتتقطّع الحبال، وتغيب الملامح إلى الأبد. فكرة أنك لن تلتقي صديقًا بعد الآن وأنت متيقن من ذلك مخيفة إلى حد لا يُشرح، قد ألتقي ببعضهن، بصدفة أو ميعاد، ولكن أن نكون كلنا سويًا؛ في مكان واحد؛ نجتمع ونتفرّق، نتعارك ونتصالح، ونضحك ونبكي، ونفترش الأرض ونأكل، ونحْضر فيلمًا أو عرضًا، أو أغنية، ونتحدث لساعات، ونصمت لساعات، ونفهم ولا نفهم، ونغضب ونمقت، ونعود نحب، ونرمي الهموم، ونحمل الهموم، لن يتكرر ذلك ثانية، لن تعود لنا أرض واحدة مشتركة، ستحاصرنا الحدود والفيزا وجوازات السفر، وذلّ العباد، وقهر البلاد، وترتمي كلٌ في طريقها، بالنهاية سينشغلن، وسيلُذْن إلى بيوتهن وحيواتهنّ، وسينسينَني، أو يذكرنني بطرف حديث، أو يمررن على اسمي والسلام.
وَعدتُ وأعطينني وعودًا، سأزورك، حتمًا، في بنزرت، في لاهور، في الحديدة، في صنعاء، في بغداد، في كشمير، في بنين، في وفي وفي ... ولا أدري أي وعد سيصدق، وأي وعد ستأخذنا الأيام عنه، فلا نعود نبالي، وتذبل كل تلك المشاعر، وتأتينا مشاعر جديدة، نعود نعيشها في دائرة أخرى.




"يا أحلى أيام العمر ... شوفة عيونك مُنيتي لكنه مو بيدي"

الكويت   1 مايو 2018



* أسمع أغنية من كل بلد فلا تعود ذكراكنّ مصيبة

الأربعاء، 20 سبتمبر 2017

الملهاة



لعل الله يعفو عن قلبك حين أخفق فيما مضى، لعله يغفر تقصيره ونسيانه، لعله يتجاوز عن أخطائه اللا محدودة، قلبك الضعيف الواهن، العاجز عن الوصول، الراغب في المستحيل، الغارق في الأمل...
الطرقات التي بكيتَ فيها كثيرًا لم تعد تتسع لدمعة، الوحدة التي سكنتك لم تدع المجال لبيوت ولا غرف، أصدقاؤك القدامى صمّوا آذانهم لئلا تصرخ فيها أكثر، أصدقاؤك الجدد توَلوا وأعينهم تفيض من الدمع لمّا عرفوا كربك.
قد نسيَك البحر الذي ضلّ فيه دعاؤك، ولم تنسَ أنت وظللت في رحلة بحثك، ما أمِنتَ العودة فيه تارة أخرى فغرقت.
يتساءل قلبك عن المركب إن بقي له أثر.. تظل أنت تتساءل عن كل ما فقدت وكل ما جرى إن كانت منه جدوى..
تنظر إلى حياتك التي مرّت من بين يديك، وتنظر إلى عمرك الذي ظلْتَ عليه عاكفًا،

 لقد ذقتَ ضِعف الحياة وضِعف الممات. 


الأحد، 14 مايو 2017

درس آخر

طبعي الصامت لم يكن وسيلة كافية لئلا أحاط بالثرثارين بين الحين والحين. شريكتي في السكن كانت تملك قدرة هائلة على الكلام. في الصباح الباكر حين تفتح عينيها كانت تفتح فمها مباشرة وتثرثر، وكأنها صاحية منذ أمد. كنت ألوذ بالصمت وأتركها تثرثر للا أحد. كيف لها أن تستعيد صوتها فور استيقاظها؟ لا أحد يملك صوته في الساعات الأولى من الصباح؛ في أول ساعة على الأقل.
أذكر أنه كان صباحًا من رمضان حين قررنا أن نخرج لنقضي مشاويرنا. خرجنا ولسوء حظنا لم نجد سيارة تقلنا فمشينا إلى نقطة الباص. كانت تثرثر على امتداد الطريق عن أشياء لم أفهمها. في القطار لم تسكت للحظة وظلت تتكلم عن كل شيء، وأنا صامتة أفكر في اللحظة التي سأصرخ فيها: كفى! ولكن لم أفعل. فكرت فيما لو أنها ما تزال صائمة. استمررتُ بالصمت وأغمضت عيني متخيلة أن المقعد يسحبني إلى الأسفل وأدور في دوامة بعيدة.
بعد مدة انفصلنا بحكم انتقالها لجامعة أخرى. جاءت لزيارتي في إحدى المرات ومعها زميل لها. فور التقائنا تركتني والزميل لتلقي التحية على بعض الأصحاب القدامى. فورًا قلت للرجل بأنني سأمضي لأنها ستتأخر ولابد في إلقائها التحايا. أجاب على الفور: "أكيد، فلانة تحجي هواي" وبدأ بالشكوى حول كيف أنها لم تصمت للحظة طول طريقهم إلى هنا!
ضحكت ومضيت، الآن بتُّ لا أنزعج من أحاديثها. حين تتصل أعلم أنني لن أغلق السماعة في أقل من ساعة، ولكني أجيب على أي حال. صرت أقول إنه درس في الصبر ولابد. درس في التحمل، درس في إعطاء الآخرين مساحتهم التي يحتاجون إليها.

السبت، 31 ديسمبر 2016

آخر السنة

أنا أذكر كيف تغيرت حياتي. ربما نسيت أنت وظننتني هكذا منذ البداية. ولكن أنا لا يمكن أن أنسى. لم يحدث ذلك بسهولة، ولم يحدث في يوم وليلة، ولا حتى سنة، لم تكن عندي سنة التغيير. ولكنني أذكر جيدًا المواقف والحوادث التي غيرتني. أذكرها لحظة بلحظة ولو يسعفني الوقت لجلست أتلوها عليك الواحدة تلو الأخرى. ولكنك في غنى عن ذلك. ذاكرتي حديدية في هذه على الرغم من أن عندي مشاكل حقيقية في الذاكرة. مشاكل أخجل من ذكرها وأفكر جديًا في التواصل مع طبيب حيالها. في تعلّم الباهاسا مثلاً أبدو أبطأ واحدة في الفصل. أذكر الكلمة وأنساها في الوقت نفسه. زملائي يسخرون من ذاكرة السمكة التي أملكها. وأنا أضحك ولكن تجتاحني الرغبة في البكاء. عزائي في السيد حفيظ الذي يصرّ على التواصل معي في الواتس اب وإعطائي دروسًا إضافية، حقًا أنا ممتنة له وحزينة من أجل زوجته التي طلّقته بعد خمس سنوات بسبب عدم إنجابه!
لو استمرت معي السنين لاستمررت بالتغيير، لا شيء يشدني لأجعل حياتي ثابتة، عدا ذلك فأنا أفضل اختيار قبرٍ أوصي أن يزرع بالورود.
لم يعد يعنيني رأي الآخرين بي. عادي أن أتوقف في منتصف الطريق لأعطي دروسًا في الأخلاق. لأنه طفح الكيل. وفي المقابل أرى ذلك خير من أسلوب الهمز واللمز على الفيسبوك. أولئك الاتي يكتبن منشورات في صديقاتهن وكأنهن يعنين شخصًا من كوكب آخر!
حتى المجانين يفهمون هذا.
ربما تذكرت الآن، وربما ما تزال ناسيًا؛ وهني وقلة حيلتي، ما زالتا فيّ، ولكني أخفيهما ما استطعت.
أتمنى لك عامًا سعيدًا أينما كنت. بعيدًا وناسيًا ودالاً طريقك.



فلتذهب الذاكرة المحزونة إلى السموات ولتصِر مطرًا أو أي شيء جديد.